فصل: الفائدة الثالثة: قوله: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} يتناول كل من كان لله عليه نعمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
اهْدِ: صِيغَةُ أمْرٍ، ومعناها: الدعاءُ، فقِيلَ معناه: أَرْشِدْنَا.
وقال عَليّ: وأُبَيُّ بن كَعْب رضي الله عنهما ثبتنَا؛ كما يُقال للقائِم: قم حتى أعودَ إليك، أَيْ: دُمْ على ما أنت عليه، وهذا الدعاء من المؤمنين مع كونهم علَى الهدايَةِ بِمعنى التَّثْبِيتِ، وبمعنى طلبِ مزيد الهدَاية؛ لأنَّ الأَلْطافَ والهدايات من الله تعالى لا تتناهى على مذهب أَهْلِ السُّنة.
واعلم أن صيغةَ أَفْعَلْ تَرُِد لمعانٍ كثيرةٍ ذكرِها الأُصُوليُّونَ.
وقال بعضُهم: إن وردت صيغةُ أفعل من الأعلى للأدنى، قيل فيها: أَمر، وبالعكس دُعاء، ومن المُساوي التماس، وفاعله مستتر وُجُوبًا، لِمَا مَرَّ، أي: اهْدِ أنت، ون: مفعول أَوَّل، وهو ضمير متصل يكون للمتكلم مع غيره، أو المعظّم نفسه، ويستعملُ في موضع: الرّفع، والنصب، والجر، بلفظ واحد؛ نحو: قُمْنَا، وضَرَبَنَا زَيْد، ومَرَّ بِنَا، ولا يشاركه في هذه الخصوصية غيره من الضَّمائر.
وقد زعم بعضُ النَّاسِ أن الياء كذلك؛ تقولُ: أكرمني، ومرّ بي، وأنت تقومين يا هند، والياء في المثال الأوّل منصوبةُ المحلِّ، وفي الثاني مجرورته، وفي الثالث مرفوعتهُ، وهذا ليس بشيءٍ؛ لأن الياءَ في حالةِ الرفع، ليست تلك الياء التي في حالة النَّصبِ والجر؛ لأن الأُولَى للمتكلم، وهذه المخاطبة المؤنثة.
وقيل: بل يشاركُه لفظُ هُم؛ تقول: هم نائمون وضربتهم ومررت بهم، فهم مرفوعُ المحلِّ، ومنصوبُهُ، ومجروره بلفظ واحد، وهو للغائبين في كل حالٍ، وهذا وإِنْ كان اَقربَ منَ الأولِ، إلاّ أَنَّهُ في حالة الرفع ضمير منفصل، وفي حالة النصب والجر ضمير متّصل.
فافترقا، بخلاف نَا فإنَّ معناها لا يختلِفُ، وهي ضمير متصل في الأحوال الثلاثة. و: {الصِّراطَ} مفعول ثانٍ، و: {المستقيم} صِفَتُه، وقد تبعه في الأربعةِ من العشرة المذكورة.
وأصلُ: {هَدَى} أن يتعدّى إِلَى الأولِ بنفسه وإلى الثاني بحرفِ الجَرِّ، وهو إما: إلى أو اللام؛ كقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]،: {يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] ثم يُتَّسَعُ فيه، فَيُحْذَفُ الجَرُّ، فيتعدى بنفسه، فأصلُ: {اهْدِنا الصِّرَاطَ} إهدنا للصِّراط أو إلى الصّراط، ثم حذف.
والأمرُ عند البصريين مَبْنِيّ وعند الكوفين مُعْرَب، ويَدَّعُونَ في نحو: اضْرِبْ، أنَّ أصله: لِتَضْرِبْ بلامِ الأَمْرِ، ثم حذف الجازم، وتبعه حرفُ المُضَارعةِ، وأتي بهمزة الوصل؛ لأجل الابتداء بالسَّاكن، وهذا مما لا حاجة إليه، وللرد عليهم موضع يليق به.
ووزْنُ اهْدِ افْعِ؛ حُذِفَتْ لاَمُه، وهي الياءُ حملًا للأمر على المجزوم، والمجزوم تُحْذَفُ منه لامه إذا كانت حرف علّة.
ومعنى الهِدايَة: الإرشادُ أو الدلاَلَةُ، أو التقدّم.
ومنه هواد الخيل لتقدمها.
قال امرؤُ القَيْسِ: الطويل:
فَاَلْحَقَنَا بالهَادِيَاتِ وَدُونَهُ ** جَوَاحِرُهَا في صَرَّةٍ لَمْ تَزَيَّلِ

أي: المتقدّمات الهَادية لغيرها.
أو التَّبيينُ؛ نحو: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت: 17] أي: بيّنّا لهم؛ ونحو: {أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى} [طه: 50]، أيْ: أَلْهَمَهُ لمصالحه.
أو الدعاءُ؛ كقوله تعالى: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: 7]، أيْ دَاعٍ.
وقيل: هو المَيْلُ؛ ومنه قوله تعالى: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [الأعراف: 156] والمعنى: بقلوبِنا إِلَّيْكَ، وهذا غلط؛ فإن تَيْك مادة أخْرى من هَادَ- يَهُودُ.
وقال الرَّاغِبُ: الهِدَايَةُ: دَلاَلَة بِلُطْفٍ، ومنه الْهَدِيَّةُ، وخصّ ما كان دلالةً بهديت وما كان إعْطَاءً بأهديت.
و{الصِّرَاط} الطَّريقُ المستسهلُ، وبعضُهم لا يقيده بالمستسهلِ؛ قال الراجز:
فَضَلَّ عَنْ نَهْجِِ الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ

ومثله: الوافر:
أَمِيرُ الْمُؤْمِنينَ عَلَى صِرَاطٍ ** إِذَا اعْوَجَّ الْمَوَارِدُ مُسْتَقِيمِ

وقال آخَرُ: الوافر:
شَحَّنَا أَرْضَهُمْ بِالْخَيْلِ حَتَّى ** تَرَكْنَاهُم أَذَلَّ مِنَ الصِّرَاطِ

أَي: الطَّريقِ.
وهو مُشْتَقّ من السَّرْطِ وهو: الابتِلاَع؛ إِمَّا لأنَّ سالكَهُ يَسْتَرِطُه، أَوْ لأنه يَسْتَرِطُ سَالِكَه؛ ألا ترى إلى قولهم: قَتَلَ أَرْضًا عَالِمُهَا، وقَتَلَتْ أَرْض جَاهِلُها؛ وبهذَيْن الاعتباريْن قال أبو تمام: الطويل:
رَعَتْهُ الْفَيَافي بَعْدَ مَا كَانَ حِقْبَةً ** رَعَاهَا وَمَاءُ المُزْنِ يَنْهَلُ سَاكِبُهْ

وعلى هذا سُمِّيَ الطريقُ لَقَمًا ومُلْتَقِمًا؛ لأنه يلتقِمُ سالِكَه، أو يلتقمُهُ سالِكُه.
وأصله: السّين: وقد قرأ به قُنْبُل رحمه الله تعالى حيث ورد، وإنما أُبْدِلَتْ صَادًا؛ لأجلِ حرفِ الاسْتِعْلاَءِ وإبدالها صادًا مُطَّرد عنده؛ نحو: صَقَر في سَقَر، وصَلَخ في سَلَخ، وأَصْبغ في أَسْبَغ، ومُصَيْطر في مُسَيْطر لما بينهما من التَّقارب. وقد تُشَمُّ الصادُ في: {الصِّرَاطِ} ونحوه زَايًا، وقرأ به خَلَف، وحَمْزَةُ حيث ورد، وخَلاَّد: الأوَّلَ فقط، وقد تُقْرأُ زايًا مَحْضة، ولم تُرْسَمْ في المصحَفِ إلا بالصَّاد، مع اختلافٍ في قراءتِهم فيها كما تقدم.
و{الصِّراطَ} يُذْكَرُ ويُؤَنَّثُ: فالتذكيرُ لُغَة تَميم، والتَّأنيثُ لغةُ الحِجَازِ، فإِنِ اسْتُعمِلَ مُذكَّرًا، جمع على أَفْعِلَة في القلّةِ، وعلى فُعُل في الكَثْرَةِ، نحو: حِمَارِ، وأَحْمِرَة وحُمُر، وإِنِ اسْتُعْمِلَ مُؤَنثًا، فقياسه أن يجمعَ على اَفْعُل: نحو: ذِرَاع وأذْرُع.
و{المُسْتَقيمَ} اسمُ فَاعِلِ من استقامَ، بمعنى المُجَرّد، ومعناه: السَّوِيِّ مِنْ غَيْرِ اعْوِجَاج، وأصْلُه: {مُسْتَقْوم} ثُم أُعِلّ كإعلالِ: {نَسْتَعِيْن} وسيأتي الكلامُ مُسْتَوْفى على مادتِه إن شاء الله تعالى عند قوله تعالى: {وَيُقِيمُونَ الصلاة} [البقرة: 3]. اهـ.. بتصرف يسير.

.تفسير الآية رقم (7):

.من أقوال المفسرين في قوله: {صراط الذين أنعمت عليهم}:

.قال الفخر:

فصل في تفسير قوله: {صراط الذين أنعمت عليهم}.

.فوائد: في معنى قوله: {صراط الذين أنعمت عليهم}:

.الفائدة الأولى: في حد النعمة:

في حد النعمة، وقد اختلف فيها، فمنهم من قال إنها عبارة عن المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير، ومنهم من يقول: المنفعة الحسنة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير، قالوا وإنما زدنا هذا القيد لأن النعمة يستحق بها الشكر، وإذا كانت قبيحة لا يستحق بها الشكر، والحق أن هذا القيد غير معتبر، لأنه يجوز أن يستحق الشكر بالإحسان وإن كان فعله محظورًا، لأن جهة استحقاق الشكر غير جهة استحقاق الذنب والعقاب، فأي امتناع في اجتماعهما؟ ألا ترى أن الفاسق يستحق بإنعامه الشكر، والذم بمعصية الله، فلم لا يجوز أن يكون الأمر هاهنا كذلك.
ولنرجع إلى تفسير الحد المذكور فنقول: أما قولنا المنفعة فلأن المضرة المحضة لا تكون نعمة، وقولنا المفعولة على جهة الإحسان لأنه لو كان نفعًا حقًا وقصد الفاعل به نفع نفسه لا نفع المفعول به لا يكون نعمة، وذلك كمن أحسن إلى جاريته ليربح عليها.
إذا عرفت حد النعمة فيتفرع عليه فروع: الفرع الأول: اعلم أن كل ما يصل إلى الخلق من النفع ودفع الضرر فهو من الله تعالى على ما قال تعالى: {وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ الله} [النحل: 53] ثم أن النعمة على ثلاثة أقسام: أحدها: نعمة تفرد لله بإيجادها، نحو أن خلق ورزق.
وثانيها: نعمة وصلت من جهة غير الله في ظاهر الأمر، وفي الحقيقة فهي أيضًا إنما وصلت من الله تعالى، وذلك لأنه تعالى هو الخالق لتلك النعمة، والخالق لذلك المنعم، والخالق لداعية الأنعام بتلك النعمة في قلب ذلك المنعم، إلا أنه تعالى لما أجرى تلك النعمة على يد ذلك العبد كان ذلك العبد مشكورًا، ولكن المشكور في الحقيقة هو الله تعالى ولهذا قال: {أَنِ اشكر لِى ولوالديك إِلَىَّ المصير} [لقمان: 14] فبدأ بنفسه تنبيهًا على أن إنعام الخلق لا يتم إلا بإنعام الله، وثالثها: نعم وصلت من الله إلينا بسبب طاعتنا، وهي أيضًا من الله تعالى؛ لأنه لولا أن الله سبحانه وتعالى وفقنا للطاعات وأعاننا عليها وهدانا إليها وأزاح الأعذار عنا وإلا لما وصلنا إلى شيء منها، فظهر بهذا التقرير أن جميع النعم في الحقيقة من الله تعالى.
الفرع الثاني: أن أول نعم الله على العبيد هو أن خلقهم أحياء، ويدل عليه العقل والنقل أما العقل فهو أن الشيء لا يكون نعمة إلا إذا كان بحيث يمكن الانتفاع به، ولا يمكن الانتفاع به إلا عند حصول الحياة، فإن الجماد والميت لا يمكنه أن ينتفع بشيء، فثبت أن أصل جميع النعم هو الحياة، وأما النقل فهو أنه تعالى قال: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنتُمْ أمواتا فأحياكم} [البقرة: 28] ثم قال عقيبه: {هُوَ الذي خَلَقَ لَكُم مَّا في الأرض جَمِيعًا} [البقرة: 29] فبدأ بذكر الحياة، وثنى بذكر الأشياء التي ينتفع بها، وذلك يدل على أن أصل جميع النعم هو الحياة.
الفرع الثالث: اختلفوا في أنه هل لله تعالى نعمة على الكافر أم لا؟ فقال بعض أصحابنا: ليس لله تعالى على الكافر نعمة، وقالت المعتزلة: لله على الكافر نعمة دينية، ونعمة دنيوية واحتج الأصحاب على صحة قولهم بالقرآن والمعقول: أما القرآن فآيات.
إحداها: قوله تعالى: {صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} وذلك لأنه لو كان لله على الكافر نعمة لكانوا داخلين تحت قوله تعالى: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ولو كان كذلك لكان قوله: {اهدنا الصراط المستقيم صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} طلبًا لصراط الكفار، وذلك باطل، فثبت بهذه الآية أنه ليس لله نعمة على الكفار، فإن قالوا: إن قوله الصراط يدفع ذلك، قلنا: إن قولنا: {صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} بدل من قوله: {الصراط المستقيم} فكان التقدير اهدنا {صراط الذين أنعمت عليهم}، وحينئذٍ يعود المحذور المذكور.
والآية الثانية: قوله تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرلأِنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا} [آل عمران: 178] وأما المعقول فهو أن نعم الدنيا في مقابلة عذاب الآخرة على الدوام قليلة كالقطرة في البحر، ومثل هذا لا يكون نعمة، بدليل أن من جعل السم في الحلواء لم يعد النفع الحاصل منه نعمة لأجل أن ذلك النفع حقير في مقابلة ذلك الضرر الكثير، فكذا هاهنا.
وأما الذين قالوا إن لله على الكافر نعمًا كثيرة فقد احتجوا بآيات: إحداها: قوله تعالى: {يا أيها الناس اعبدوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشًا والسماء بِنَاء} [البقرة: 21، 22] فنبه على أنه يجب على الكل طاعة الله لمكان هذه النعم العظيمة.
وثانيها: قوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنتُمْ أمواتا فأحياكم} [البقرة: 28] ذكر ذلك في معرض الامتنان وشرح النعم.
وثالثها: قوله تعالى: {يابنى إسراءيل اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 40] ورابعها: قوله تعالى: {وَقَلِيل مّنْ عِبَادِىَ الشكور} [سبأ: 13] وقول إبليس: {وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكرين} [الأعراف: 17] ولو لم تحصل النعم لم يلزم الشكر.
ولم يلزم من عدم إقدامهم على الشكر محذور؛ لأن الشكر لا يمكن إلا عند حصول النعمة.

.الفائدة الثانية: من معاني قوله: {اهدنا الصراط المستقيم صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}:

يدل على إمامة أبي بكر رضي الله عنه؛ لأنا ذكرنا أن تقدير الآية: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم والله تعالى قد بين في آية أخرى أن الذين أنعم الله عليهم من هم فقال: {فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مّنَ النبيين والصديقين} [النساء: 69]؛ الآية ولا شك أن رأس الصديقين ورئيسهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فكان معنى الآية أن الله أمرنا أن نطلب الهداية التي كان عليها أبو بكر الصديق وسائر الصديقين، ولو كان أبو بكر ظالمًا لما جاز الاقتداء به، فثبت بما ذكرناه دلالة هذه الآية على إمامة أبي بكر رضي الله عنه.

.الفائدة الثالثة: قوله: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} يتناول كل من كان لله عليه نعمة:

قوله: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} يتناول كل من كان لله عليه نعمة، وهذه النعمة إما أن يكون المراد منها نعمة الدنيا أو نعمة الدين، ولما بطل الأول ثبت أن المراد منه نعمة الدين، فنقول: كل نعمة دينية سوى الإيمان فهي مشروطة بحصول الإيمان، وأما النعمة التي هي الإيمان فيمكن حصولها خاليًا عن سائر النعم الدينية، وهذا يدل على أن المراد من قوله: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}.
هو نعمة الإيمان، فرجع حاصل القول في قوله: {اهدنا الصراط المستقيم} {صراط الذين أنعمت عليهم} أنه طلب لنعمة الإيمان، وإذا ثبت هذا الأصل فنقول: يتفرع عليه أحكام:
الحكم الأول: أنه لما ثبت أن المراد من هذه النعمة نعمة الإيمان، ولفظ الآية صريح في أن الله تعالى هو المنعم بهذه النعمة؛ ثبت أن خالق الإيمان والمعطي للإيمان هو الله تعالى، وذلك يدل على فساد قول المعتزلة، ولأن الإيمان أعظم النعم، فلو كان فاعله هو العبد لكان إنعام العبد أشرف وأعلى من إنعام الله، ولو كان كذلك لما حسن من الله أن يذكر إنعامه في معرض التعظيم.
الحكم الثاني: يجب أن لا يبقى المؤمن مخلدًا في النار، لأن قوله: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} مذكور في معرض التعظيم لهذا الإنعام، ولو لم يكن له أثر في دفع العقاب المؤبد لكان قليل الفائدة فما كان يحسن من الله تعالى ذكره في معرض التعظيم.
الحكم الثالث: دلت الآية على أنه لا يجب على الله رعاية الصلاح والأصلح في الدين، لأنه لو كان الإرشاد واجبًا على الله لم يكن ذلك إنعامًا؛ لأن أداء الواجب لا يكون إنعامًا، وحيث سماه الله تعالى إنعامًا علمنا أنه غير واجب.
الحكم الرابع: لا يجوز أن يكون المراد بالإنعام هو أن الله تعالى أقدر المكلف عليه وأرشده إليه وأزاح أعذاره وعلله عنه؛ لأن كل ذلك حاصل في حق الكفار، فلما خص الله تعالى بعض المكلفين بهذا الإنعام مع أن هذا الأقدار وإزاحة العلل عام في حق الكل علمنا أن المراد من الأنعام ليس هو الأقدار عليه وإزاحة الموانع عنه. اهـ.